NEWS

غياب الأستاذ

بوفاة الدكتور عبدالحميد سالم المحادين، تنطوي واحدة من أهم صفحات مسيرة التعليم في مملكة البحرين، حيث عاصرها الفقيد مدة تزيد عن الستين عاماً، كان خلالها معلماً في أعرق مدارس البلاد (الهداية الخليفية الثانوية) لأكثر من ربع قرن، ومؤرخاً للتعليم في هذا البلد الذي أتى إليه في مطلع ستينات القرن الماضي.

يقول المرحوم الدكتور المحادين في مذكراته أنه عندما عُرض عليه العمل مدرّساً في البحرين، لم يكن يعرف عن هذه البلد إلا أنها تشتهر باللؤلؤ وإبراهيم العريض، ولكنه ما أن حطّ رحاله فيها حتى اندمج بسرعة فائقة. شابٌّ يافع يقارب عمره أعمار بعض طلابه، فكان يلعب الكرة معهم، ويجالسهم، فسرعان ما غدا بحرينياً، بل ومحرّقيّاً أيضاً، فعشق نادي المحرق، وتعرف على الكثير من رجالات البلاد، وأهم من يحرّكون المياه الثقافية فيها.

لم ينفصل د.عبدالحميد المحادين عن محيطه، ولم يتعامل معه على أنه سيعود إلى وطنه (الكرك – الأردن) خلال عام أو اثنين، بل سرعان ما اجتذبه السحر والسرّ الخفي في البحرين، وغرق في ثناياها… لم ينظر إلى المشهد الثقافي من علِ، ولم يتكبر على الإبداع المحلي، ولكنه غدا واحداً من أهمّ النقاد الأدبيين لما تنتجه أقلام شباب وشابات البلاد، ناهيك عن كلاسيكييها، وكبار أدبائها، وراح يشارك آراءه القارئ البحريني عبر الصحف والمجلات، فعمل في الصفحات الثقافية في أكثر من مطبوعة بحرينية، وعمل سلسلة لقاءات مع شخصيات بحرينية ذات تاريخ نشرت في “مجلة البحرين الثقافية” ثم صدرت في كتاب “من ذاكرة البحرين” الذي حوى محاورته لستٍّ وعشرين شخصية بحرينية مهمة، فحفظ بذلك جانباً من تاريخ البلاد الذي يتفلت بسبب غياب هذه الشخصيات بفعل الزمن.

ولكن إنجازه الأكبر كان في التأريخ للتعليم في البحرين، حيث أضحى مرجعاً فيه، بفضل احتفاظه بما كان الناس يرمونه من أوراق وملفات تخص التعليم على أنها قديمة ولا فائدة منها، فاستطاع من هذه الأوراق المتناثرة، أن ينسج ثوب التعليم في هذا البلد بما وصل إليه من معلومات، ولولاه لضاع الكثير من هذا التاريخ القريب الذي يشهد على توجه الوطن للتقدم.

لنا أن نتخيّل أن كلّ من مرّ بمدرسة الهداية الخليفية الثانوية للبنين، منذ 1961، له ذكرى مع الأستاذ المحادين، سواء درسهم مباشرة، أم كانوا يرونه في الصفوف أو في يذرع الساحات بقامته المديدة، أما من كان يتحدث إليهم فلا تغيب عن بالهم نبرات صوته العميق، وحسّ فكاهي له مذاق خاص.

ولنا أن نتخيل ما لأستاذنا الراحل من ذكريات في جامعة البحرين، مدرساً، وأستاذاً مساعداً في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بعد أن نال الدكتوراه متأخراً، فلقد كان طوال عمره أكبر من الشهادات، والأوراق التي تثبت جدارته في النقد… لنا أن نتخيل طلابه وما يكتنزون من ذكريات، وطلبة الجامعة ككل في بدايات القرن الحالي وهو عميد لشؤون الطلبة، وهي الفترة التي شهدت التغيرات الكبرى في مملكة البحرين، وكيف استطاع – وفريقه – قيادة العمل الطلابي بأبويّة.

رحم الله أبا ساسان، الدكتور عبدالحميد سالم المحادين، الذي كتب سيرته في كتاب “من الكرك إلى المحرق”، فكانت البحرين محطته الأطول، والأهم، فاحتضنته كما احتضنها حتى لحظاته الأخيرة.

2023-10-23T10:15:22+03:00أكتوبر 22, 2023|غير مصنف|
Go to Top